الصورة الشعرية عند عبد الله البردوني - أحمد طعمة حلبي
 

بادئ ذي بدء نقول: إن الممارسة النقدية التي قام بها الناقد وليد مشوح في كتابه (الصورة الشعرية عند عبد الله البردوني)، تظهر إلى حد كبير وعي الناقد لحدود بحثه، وتمكنه الجيد من امتلاك الصيغ والتصورات المنهجية، التي كثيراً ما تغيب عن كثير من الدراسات النقدية العربية المعاصرة، نقول هذا بغض النظر عن المنهج الذي يتخذه الناقد في إجراءاته النقدية، وإن القارئ لهذا الكتاب (الصورة الشعرية عند عبد الله البردوني) يجد أن الناقد استطاع توظيف معطيات المنهج النفسي، في خدمة درسه النقدي، وقد أجاد في ذلك أيما إجادة، وهذا ما سنستشفه في معظم صفحات الكتاب.‏
وقد قسم الناقد كتابه إلى بابين أساسيين: الباب الأول يتناول (الكفيف وتكوين الصورة)، وقد حوى هذا الباب أربعة فصول تحدث الناقد في الفصل الأول من هذا الباب عن حياة البردوني وأعماله الشعرية، ولابد من دراسة لأي علم من الأعلام أن تبدأ بالحديث عن ترجمته، حتى تضعنا أمام الأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية التي مر بها هذا العلم، ولا بأس من تقديم لمحة عن حياة البردوني، كما صوّرها لنا الناقد وليد مشوح، ولد البردوني عام 1929 في قرية البردون، التي تبعد عن صنعاء نحو 150 كيلو متراً، وبعد أن أصيب بالجدري فقد بصره وهو في سن الخامسة من عمره.‏
وكان قد مر بمراحل عصيبة في حياته، فقد سجن عدة مرات، وبعد سجنه عام 1949م غادر إلى صنعاء التي درس فيها بدار العلوم، وأنهى فيها دراسته، بعد أن اطلع على العديد من الكتب الرومانسية للعقاد وغيره، وهكذا تكونت أرضيته العلمية(1). "عمل البردوني محامياً، قاضياً، أستاذاً للأدب العربي في دار العلوم، رئيساً لاتحاد الأدباء في اليمن، موظفاً في إذاعة صنعاء"(2). من بعض أعماله الشعرية: من أرض بلقيس 1961 القاهرة. مدينة الغد 1970 بيروت. جوّاب القصور 1991 دمشق مطبعة الكاتب العربي. ومن بعض أعماله النثرية: قضايا يمنية ـ بيروت ـ دار الحداثة ـ ط 3ـ 1988. اليمن الجمهوري ـ دمشق ـ الكاتب العربي 1983. الثقافة.. والثورة في اليمن. دمشق ـ مطبعة الكاتب العربي 1991.‏
لقد كان البردوني مجدداً في الشعر العربي، وخاصة في الشكل الذي تطور وخضع للغة جديدة، بالإضافة إلى النزعة الدرامية التي طغت على أعماله الشعرية، وهذا ما جعل الناقد يقف إلى جانب الدكتور عبد العزيز المقالح، حينما صنف البردوني ووضعه على رأس المدرسة الرومانسية على حد قول الناقد.‏
أما الفصل الثاني فقد تحدث فيه الناقد عن (الكفيف بين المدرك الحسي والتجريد العقلي/ البردوني نموذجاً). وقد عالج الناقد هنا عدة قضايا:‏
أولاً ـ عاهة البصر ودلالاتها اللغوية: لقد وظف الناقد موهبته اللغوية، حيث ميز بين نوعين من أنواع العمى: عمى البصر الذي يكون لعلة أو عن ولادة، وعمى البصيرة هو ما سماه بالعمى النفسي، ليس ذلك فحسب، بل إن الناقد استفاد من ثقافته المعجمية على أكمل وجه، عندما ميز بين العمى والكمه، وتتبع معاني مشتقات لفظة العمى، ولقد أبدى ثقافة نحوية يُحمد عليها، حينما عرض للفظة العمى، تصريفاً وإعراباً، برجوعه إلى العديد من المعاجم، كمعجم لسان العرب لابن منظور وغيره.‏
ثانياً ـ من مكافيف العرب: ولقد بيّن الناقد أن المكافيف المبدعين كثر في التاريخ العربي، وقد كانوا أصحاب بصيرة نافذة، ولكن موقفهم من تلك العاهة مختلف، فبينما تعالى بشار بن برد على عاهة العمى، إذ بنا نجد أن المعري قد يئس منها، وأما الشعر أحمد الزين، وهو شاعر عاش في القرن العشرين، فقد وقف موقفاً وسطاً من محنته تلك، وحاول أن يعيش حياة طبيعية، كبقية الناس المبصرين. أما بالنسبة للبردوني فقد ترجح موقفه بين المواقف الثلاثة الآنفة الذكر، فهو أراد أن يثبت قدرته العلمية الأدبية بين المبصرين، وكان لـه ذلك. ولاشك أن تتبع تجليات حالة العمى، وأثرها في نفس المصابين بها، على مر العصور، من قبل الناقد، يمكِّننا من القول: إن ناقدنا أديب ناجح، ومؤرخ حاذق في الوقت نفسه.‏
ثالثاً ـ الإدراك والصورة الشعرية: لقد رأى الناقد أن الصورة الشعرية تتشكل عند الإنسان من خلال إدراكه للعالم المحيط به، ويكون هذا الإدراك عن طريق الأحاسيس بأنواعها، سواء أكانت بصرية أم سمعية أم شمية أم لمسية، وكذلك عن طريق الصور المنجزة التي يستدعيها الادراك، وطريقة الجمع بينها وبين الأحاسيس، والتوفيق بينها، وعلى ذلك يكون تشكيل الصورة الشعرية عند الشاعر البصير البردوني أمراً سهلاً، فالبصر لا يشكل سوى جزء ضئيل من تلك العملية، "فالمرء يستطيع أن يكوّن لنفسه عالماً خيالياً واسعاً من المرئيات والأحداث والأقاصيص، خارجاً عن دائرة واقعه الضيقة"(3).‏
رابعاً ـ الإنسان بين عالمين: لقد فرق الناقد بين العالم الخارجي الذي يأخذ الإنسان منه الأشياء الواقعية المحسوسة، وبين عالم النفس الداخلي، ورأى أن عالم النفس الداخلي عالم أوسع بكثير بما يجول فيه من أفكار وانفعالات ورغبات، ولقد استفاد الشاعر كثيراً من هذا العالم، وربما كان هذا العالم سبباً في تميز أديب عن آخر.‏
ولقد أكثر الناقد من استخدام المصطلحات التي تدل على علو كعب المنهج النفسي في طريقة دراسته منها: الأنا ـ الانطباعات الحسية ـ التخييل وغيرها.‏
خامساً ـ الصور العقلية والمفاهيم المجردة عند البردوني: يرى الناقد أن تشكل الصور العقلية والمفاهيم المجردة في ذهن الإنسان، يأتي من خلال إعادة صياغة الحياة، ولكن لا يكون ذلك بالرؤية البصرية، بقدر ما يكون بالرؤية القلبية والعقلية والقوى الفكرية، والتي يستطيع الإنسان من خلالها توسيع مخيلته، وتشكيل الصور التي ربما تجنح عن الواقع، ولكنها تشكل قمة الهرم بالنسبة للصور الفنية، وهذا ما استشفه الناقد من خلال تحليله النفسي والفني، لكثير من الصور التي ابتدعها البردوني من مخيلته، للنور أو للظلام على سبيل المثال.‏
فالبردوني يصور النور مرة بالولادة، وأخرى بالهدى، وثالثة بكونه رمزاً للمستقبل الواعد بالخير والتقدم والجمال، وأخرى بأنه رمز للخير والحق وهكذا.. وهذا عائد إلى أنه يرى الأشياء من خلال مخيلته وأحاسيسه وقلبه، وهذا ما يجعله يصوّر الأشياء بشكل مطلق، بينما يرى المبصر الأشياء بعينيه، وهذا ما يقيّد رؤيته على حد قول البردوني.‏
وفي الفصل الثالث (توظيف الإحساس لصياغة الصورة في شعر البردوني) نرى الناقد قد تمكن من تبيين الاختلاف بين الكفيف والمبصر في مسألة الإحساس، وأرجع إحساس البردّوني إلى قوة ذاكرته، فهو لم يفقد بصره إلا بعد أن انطبعت صورة الأشياء في ذاكراته، ورغم ضعف هذا الانطباع إلا أن قوة ذاكرته ومن خلفها شدة انتباهه وذكائه كانت عوامل مساعدة، ولها تأثيرها بشكل كبير في تكوين الصورة الشعرية عند البردوني.‏
وقد أكثر الناقد في هذا الفصل من استخدامه الألفاظ التي تعود أصولها إلى الأدوات التي يستخدمها المنهج النفسي منها: الإدراك ـ النظام السايكولوجي المنظم ـ الاضطراب ـ الانفعالات وغيرها.‏
وقد استنتج الناقد أن البردوني رغم فقده لنعمة البصر، إلا أنه استطاع أن يصوّر جزئيات الأشياء تصويراً ناجعاً، وقد رد ذلك إلى قوة الشاعرية والخيال، وإلى الذاكرة الحية القوية، وإلى ثقافته العالية، وقوته السمعية الحديدية.‏
ولقد بيّن الناقد أن معيار نجاح الإحساس أو إخفاقه في إبداع الصورة الشعرية، يعود إلى كيفية تقديمها إلى المتلقي، لا إلى كون المبدع كفيفاً أو مبصراً، وحينما نجول في الصور الشعرية عند البروني، نجد أنها قد صدرت عن مبدع قد أعطى مواهب ذهنية، وقوى عقلية وإدراكية لا نجدها عند كثير من المبصرين.‏
وفي الفصل الرابع (المنحى النفسي لتكوين الصورة الشعرية عند البردوني) تتوضح لنا مقدرة الناقد على كشف النقاب عن نفسية البردوني، ودورها في تكوين الصورة الشعرية عنده، فبينما يرى أن هذه النفسية المبدعة تعبّر عن ذاتها في بدايات الإبداع، يعود ليشير إلى ذوبان الأنا في الشعور الجماعي، واضمحلالها في بوتقته.‏
ويرى الناقد أن نفسية البردوني تشكلت من خلال طفولته البائسة، ومجمل الحياة الاجتماعية التي عاشها، فتحوّل البردوني في إبداعه من شاعر يريد أن يصوّر مشاعره وأحاسيسه، إلى شاعر وطني وقومي، يريد أن يدافع عن أبناء وطنه، وأن يعبّر عن مشاعرهم وأحاسيسهم، ولذلك كان من الطبيعي أن يحسّ الشاعر في شعره بالغربة والتشاؤم، لاعتبارات اجتماعية ونفسية وشخصية أيضاً، فهو الشاعر اليتيم الأعمى، وكان من البديهي أيضاً أن يفلسف الموت، لأنه كاد أن يقع في شباكه أكثر من مرة.‏
لقد استطاع الناقد أن يبيّن لنا كل ذلك، كما إنه صورّ عملية الإبداع عند البردوني، ورأى أن الهدوء هو الذي يمكّن الكفيف من الإبداع، لكنه لم يتمسك برأيه، إذ عرض عدة آراء لعدد من النقاد، وهذا يدل فيما يدل على انفتاح الناقد على آراء غيره، وعدم تعصبه لمذهبه النقدي، كما إننا نلاحظ أن الناقد كان يقوم بعرض العديد من الأشعار لشعراء عدة، وفي عصور متنوعة، مقارنا ًإياها مع ما قاله البردوني، وهذا يساعد في توضيح الفكرة المطروحة، وفي توثيق آرائه ونتائجه.‏
أما الباب الثاني (الصورة في شعر البردوني) فقد قسمه الناقد إلى ثلاثة فصول:‏
في الفصل الأول (مراحل تكوّن البردوني شعرياً) بيّن الناقد أن البردوني تكوّن شعرياً في مراحل اجتماعية وسياسية مختلفة، لكن هذا التكوّن كان ينمو من خلال الموهبة والثقافة واللغة والحرية والهدوء، وكذلك تأثير حالة العمى، وأثرها في هذا التكوّن.‏
ومن الأمور التي تسجّل للناقد في هذا الفصل، اتساع ثقافته وطريقته في تحليل الحقائق وتقصيها، فقد بين بنظرة حاذقة، أن البردوني لم يكن نرجسياً عندما وصف تجربته الشعرية ـ كما تصوّر البعض - بل كان ناقداً، مشتغلاً في النقد الأدبي، بالإضافة إلى استشفافه سبب تحوّل شعر البردوني من الرومانتيكية إلى الواقعية، حيث رده إلى تحول الأوضاع السياسية في الستينيات، والتي أحاطت بالشاعر، وجعلته يتحول إلى الواقعية، وخاصة في ديوانه (طريق الفجر).‏
كما قام الناقد بعرض العديد من التجارب النقدية التي أنجزها كوكبة من النقاد، إلا أن ناقدنا بيّن أن أغلب هؤلاء النقاد، كانوا قد أصدروا أحكامهم بناءً على عواطفهم وعلاقاتهم الشخصية بالبردوني، وكان من بين هؤلاء أحمد العلمي وكذلك أحمد الشامي. ولقد عرض ناقدنا لنقد عبد العزيز المقالح، ورأى أنه اقترب من الموضوعية، حيث رأى الأخير أن البردوني كان إبداعي المذهب، بينما ردّ عليه الناقد بأن البردوني كان كلاسيكياً في قصائد، ورومانسياً في أخرى، وشعبياً في غير هذه وتلك، أي إنه أخذ من كل المدارس الأدبية، ووقف موقفاً وسطاً بين التجديد والتقليد.‏
ولم يُصدر ناقدنا أحكامه النقدية تلك عن عبث، بل استدل على ذلك بعدة أبيات للبردوني، وقام بتحليلها وفقاً لما يمليه عليه المنهج النفسي، أما الموضوعية التي استشفها في نقد المقالح للبردوني، فكانت من خلال تبيين المقالح محافظة البردوني على الإيقاع الخارجي، وتجديده في محتويات قصائده، وكان هذا التجديد من خلال تحطيم العلاقات اللغوية التقليدية، من خلال الجدة في الصورة، وهذا ما جعل ناقدنا يتفق معه في تلك النقطة.‏
وفي الفصل الثاني (حيوية الصورة في شعر البردوني) أظهر الناقد معرفة ثقافية واسعة، فبيّن وظيفة العين من خلال تشريح فيزيولوجي لها، واستطاع أن يفرّق بين الضوء واللون، وبين القيمة الجمالية للون، وأكد أن ارتباط أي لون بالإنسان يعود إلى التركيبة النفسية بالنسبة له، وهذا ما أدى برأيه إلى ارتباط اللون الأحمر بالصورة الشعرية عند البردوني، فاللون الأحمر يدل على الثورة، وغالباً ما كان البردوني يستعمله في صورة الشعرية فبالعودة إلى بعض المكفوفين، نجد أن بعضهم قد ربط اللون باللغة المستخدمة، وبعضهم الآخر قد ربط معرفته للون، من خلال خياله الواسع ومقارنته لون الشيء المطروح بأشياء أخرى، وثالث من المكفوفين نجده قد ربط كل لون من الألوان بشيء محسوس له صفة بأنه يلمس وهكذا، ولكن رغم ذلك، لم يصل أحد من هؤلاء إلى حسية اللون.‏
ولعل تلك الارتباطات الحسية السمعية أو اللمسية باللون موجودة عند بعض المبصرين أيضاً، لكن البردوني كان يعبّر عن اللون من خلال ما علق في مخيلته، من صور عن الألوان، وهو في سن الطفولة، أي قبل الخامسة، ولقد أشار الناقد إلى أن هذه الصور لم يكتب لها البقاء، إلا لقوة ذاكرة البردوني من جهة، وشدة انفعاله النفسي، عند التقاطه لهذه الصور، من جهة ثانية. وقد يؤلّف الشاعر خلطة لونية من خلال مزجها في عقله، معتمداً على قدرته اللغوية، ومحاولاً أن تكون ملاءمة لعاطفة المتلقي.‏
ولقد تمكن الناقد من توضيح ما للذاكرة من استعداد لتخزين الصور في المراحل الأولى من العمر، مستشهداً ببعض الآراء لعلماء النفس.‏
أما البردوني فقد تمكّن من التعامل مع اللون المطلق، من خلال مقارنته اللون المطروح بما يختلجه من أحاسيس ومشاعر، ولقد وُفّق إلى حد كبير، على حد كبير، على حد رأي الناقد، فالليل عنده مثل العمى، والشمس هي البسمة والفرح وهكذا، وبيّن الناقد أيضاً أن البردوني لم يوفق في استعماله للألوان الحضارية، أي الوافدة في صورته الشعرية، ويقدم على ذلك نماذج شعرية لا يكتفي بعرضها، بل يقوم بتفكيكها تفكيكاً نفسياً، ويصل أخيراً إلى اللون عند البردوني متغير، نظراً لطبيعته النفسية، وإلى ما يحمله من وعي فلسفي، ولكنه استطاع أن يقدّم الصور اللونية المتعارف عليها، وإن يكن في ذاته قد اختلف وعيه لهذه الصورة عن وعي المبصرين.‏
أما بالنسبة للحركة في شعر البردوني فقد قسمها الناقد إلى قسمين: حركة خارجية، وأخرى داخلية، أما الخارجية فيقصد بها كون الصورة الوصفية عند البردوني ضاجّة بالحركة من خلال تلك الشعورية المتبادلة بين المبدع والمتلقي، وهذا يكون بحسب رأيه من خلال دب الحركة في المحسوسات الجامدة، لكن الناقد يعي أن البردوني ليس وحده الذي استطاع أن يكون رائداً في هذا المضمار، بل سبقه شعراء كثر من أمثال المتنبي وعنترة وغيرهم ممن استطاعوا أن يبدعوا في مجال حركية الصورة الشعرية، وقدّم لهم الناقد أمثلة، وشرحها وفقاً لما يمليه عليه المنهج النفسي، وأجاد في ذلك أيما إجادة. وقد ميّز بين الحركة الخارجية للصورة وبين الحركة الداخلية حين أبان أن الحركة الداخلية ما هي إلا إعادة ترتيب لمكونات الصورة الفنية من داخلها، سواء أكان ذلك بفعل الخيال أم بتأثير الحقيقة.‏
ولقد نوّه الناقد إلى أثر كل من التشبيه والمجاز والرمز في جودة الحركة في الصورة الشعرية عند البردوني، بالإضافة إلى فكره الفلسفي المعتزلي على حد قوله.‏
ولقد استخلص الناقد أن الحوار من دواعي تنشيط الحركة في الصورة، وقدّم العديد من الشواهد الشعرية التي أجاد فيها البردوني، في توظيف الحوار في صورته توظيفاً جيداً، حيث يلخص الناقد ماهية الحوار عند البردوني بقوله:‏
"فالحوار عند البردوني ليس كلاسيكياً تصويرياً ساذجاً، إنما هو مركب تركيباً مزجياً، له دلالاته الموحية من خلال دقة استعمالاته لمستلزمات الحوار، ووعيه لتوجهاته، وحسن استعمال أدواته، وتساوق خلفياته مع توجهاته، مما يجعل موضوعة الحوار ككل، إذا ما قمنا بتشريحها ورسمها على مخططات بسيطة، عالماً كاملاً قد ورد في فضاءاته القصيدة الشعرية التي يبدعها الشاعر عبد الله البردوني"(4).‏
أما عن الفصل الثالث والأخير (بلاغة الصورة وموسيقا الشعر عند البردوني) فنقول: إذا كان الناقد قد بيّن لنا شكل الصورة عند البردوني، فيما سبق من كتابه، فإنه يحاول في هذا الفصل الولوج إلى محتوى الصورة عنده، وذلك من خلال تبيين بلاغتها وموسيقاها، أما بالنسبة لبلاغة الصورة، فما يميّز شعر البردوني بشكل عام هو طغيان التشبيهية في صوره، ويميز الناقد بين نوعين من التشبيهية: إحداهما تشبيهية تقوم على تداخل الحواس عند الشاعر، والأخرى تقوم على الاستفادة من التراث، وعلى حشد أسماء الأعلام في صوره، فهذا الحشد وتلك العودة إلى التراث سببهما عودة الشاعر بفكره إلى عالم الاستقرار على حد قول الناقد.‏
وقد توصل الناقد إلى أن الصورة الشعرية عند البردوني ذات طبيعة رومانسية، وقد ساعد البردوني في ذلك أسلوب القص الشعري، ومحاولته الجمع بين الهمس والصوت، وكذلك جمعه بين المتناقضات فيها.‏
ولقد أشار الناقد إلى أن التشبيه التمثيلي، كان الأكثر استعمالاً في صور البردوني، وذلك لأنه الأكثر رسوخاً في المخيلة، ويفسر ذلك ضمن تحليل نفسي من جهة، وعقلي من جهة أخرى.‏
كما أشار الناقد إلى استخدام البردوني للاستعارة والكناية في صوره، ورأى أن نسبة الكناية في أشعار العميان تزيد على نسبة الاستعارة، فالكناية تأتي في المرتبة الثانية بعد التشبيه، وقد أرجع ذلك إلى ارتباطها بمجمل الحقائق المختلفة، من إنسانية أو كونية أو طبيعية.‏
ولقد بيّن الناقد التساوق الموسيقي في جملة من الأشعار التي تناولها، وذلك بفعل قواعد علم المعاني، وقد لاحظ أن البردوني كان كثيراً ما يستعين بالاشتقاق اللغوي، فيشتق على طريقته الخاصة، وكل ذلك للحفاظ على موسيقا صوره الشعرية، ومن العناصر المتممة للصورة عند البردوني الجمع بين الشيء وضده جنباً إلى جنب، وكذلك الإيحاء والمفاجأة، ويدلّل عليها، ويقدّم أمثلة حولها. ولقد أرجع الناقد استعمال البردوني للغة على طريقته الخاصة، أي أرجع كثرة استعماله للنحت إلى مدلول نفسي.‏
ولقد أراد الناقد تلخيص كل ما أورده في الباب الثاني حول بلاغية الصورة فقدّم عدة خصائص نظرية لبلاغية الصورة عند البردوني، ولم يكتف بذلك فحسب، بل سرعان ما ألحقها بتطبيق عملي لتلك الخصائص، بحيث كان هذا التطبيق موضحاً بشكل كبير، لما قصده الناقد من هذه الخصائص، ولقد تناول هذا التطبيق العملي العديد من القصائد الشعرية للبردوني، وكشف فيها عن وسائل التشبيه والاستعارة والكناية والتضاد والكلمات العامية، وبيّن موضعها في كل قصيدة، وأشار إلى رقم الصفحة أيضاً، وهذا يدل على اهتمام الناقد بالتوثيق السليم والإحالات الصحيحة، وقد أشار الناقد إلى الأبحر الذي استعملها البردوني في قصائده، وتوصل إلى العديد من النتائج التي تكشف عن ثقافة عروضية جيدة، يتمتع بها البردوني، وتنم أيضاً عن قدرة ناقدنا على تقصي الحقائق، ومن الجدير بالذكر أيضاً اهتمام الناقد بجدولة العديد من القصائد جدولة علمية، تظهر بحرها وقافيتها ورويها، كما قدم الناقد العديد من الملاحظات عليها، إضافة إلى وضعه العديد من المخططات، التي تظهر بشكل جلي جمالية الحوار عند البردوني.‏
لقد كانت هذه الدراسة متكاملة إلى حد بعيد استطاع فيها الناقد تبين شكل الصورة الشعرية عند البردوني، كما استطاع الولوج إلى مضمونها، وقدّم أمثلة كثيرة حولها، وتمكّن من اتخاذ المنهج النفسي وسيلة في درسه النقدي، وهذا ما ظهر في معظم أبواب الكتاب وفصوله.‏
(1) انظر: مشوح، د. وليد: الصورة الشعرية عند عبد الله البردوني، ط1 ، منشورات اتحاد الكتاب العرب، دمشق عام 1996، ص 17 ـ 18 ـ 19.‏
(2) المصدر السابق: ص 20.‏
(3) المرجع السابق ص 50.‏
(4) المرجع السابق نفسه: ص 237.‏

 

 

لمراسلة صاحب الموقع اضغط 

alrazhi2@hotmal.com

الصفحة الرئيسية